سياسة

الأمن القومي العربي بين المتغيرات الدولية والإقليمية

 

بقلم: د. مصطفى عبد الرحمن
باحث في العلوم السياسية

لاشك أن بيئة النظام الدولي وبنيتة شهدت تغيرا كبيرا فى الآونة الأخيرة ، والتى كانت محل جدل كبير بين الباحثين في العلاقات الدولية والمنظرين في مختلف المدارس التي تحاول دراسة وتفسير الظواهر الدولية ، فمنذ إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق في أوائل التسعينات وتحول النظام الدولي إلى القطبية الأحادية بهيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي ، ثم التحول مرة أخرى إلى النظام شبه المتعدد بظهور قوى دولية أخرى وفواعل من غير الدول ، وفي مقدمتها الدور الروسي الجديد في العالم الذي تجلى في محاولات إعادة النظام في الدول التي ترتبط بعلاقات معها وحاولت الديمقراطية التدخلية تغيير نظمها ولا سيما في سوريا ، رغم أن دورها في موازنة الدور الأمريكي لازال ضعيفاً حيث أن الولايات المتحدة تمتلك الكثير من الأدوات وفي مقدمتها القوة العسكرية الهائلة ، والقوة الناعمة الغير محدودة ، ثم ظهور الدور الأوربى5 رغم أنه يدور في فلك السياسة الأمريكية إلا أنها تمتلك دور إقتصادي ودبلوماسي كبير ، ثم صعود القطب التجاري الصيني كمنافس قوي للولايات المتحدة على الصعيد الإقتصادي والتجاري والذي ربما لم يتعدى ذلك ، وظهر دور بعض القوى الإقليمية الأخرى ، ولكن السياسة الدولية شهدت ايضا ظهور فواعل أخرى من غير الدول تمثلت فى الشركات متعددة الجنسيات أو ما يطلق عليها عابرة القارات ، والمجتمع المدني أو المنظمات الغير حكومية ، والثورة في وسائل الإتصال والمعلومات التي تركت اثارها على جميع المجالات وأحدث تغيرات كبيرة على بعض المفاهيم من قبيل السيادة ، والقوة الإلكترونية والردع الإلكترونى،والحروب الإلكترونية ، والدبلوماسية الإلكترونية والديموقراطية الإلكترونية وغيرها ، وبروز الجماعات الأيديولوجية المسلحة ، والإرهاب وغيرها ، ومن ثم ظهرت قضايا جديدة لم تكن موجود من قبيل الجريمة المنظمة وأنماطها المستحدثة ، وتحديات البيئة والمناخ ، وحقوق الإنسان ، والأمن الإنساني وغيرها ، وهذا التحول ربما كان له أثر كبير على تفاعلات القضايا الإقليمية في بعض مناطق من العالم ومنها الأزمة الكورية ، ثم الأوكرانية ، ومكافحة الإرهاب ، وأهمها وأخطرها الأزمات المتلاحقة في المنطقة العربية من خلال تفاعلات القوى الدولية في الأزمة السورية ، واليمنية ، والعلاقة مع إيران وبرنامجها التوسعى في الخليج العربي ، والعراق ، والأزمة اللبنانية والأزمة القطرية ، وأخيرا الأزمة الليبية والأجندات التوسعية للنظام التركي .

ويقودنا الأمر إلى الولوج مباشرة إلى المتغيرات الأقليمية التي كان لها أبلغ الأثر على مرتكزات الأمن القومي العربي منذ غزو العراق في عام 2003 ،والتي عرفت بأحداث الثورات العربية عام 2010 ، والتى تركت تبعاتها حتى الأن متمثلة في الأزمة السورية واليمنية والعراقية والليبية ، ثم الإحتجاجات التي سادت الجزائر والعراق ولبنان مؤخرا ، وكانت أهم آثارها المباشرة على القوة المادية والبشرية العربية، وقد أعطت هذه الأزمات المتلاحقة للأجندات الإقليمية التوسعية على حساب النظام العربي الفرصة لتطبيق سياساتها ، وفي مقدمتها الأجندة الإيرانية والتركية والإسرائيلية ، حيث تسعى إيران بأدواتها المختلفة سواء عبر تدعيم أذرعها في الوطن العربي حزب الله في لبنان ، والحرس الثوري في سوريا ، والحوثيين في اليمن ، والحشد الشعبي في العراق ، والشيعة في دول الخليج العربي ووجودها في أفريقيا إلى فرض نفوذها على الخليج العربي ، ومن ثم السيطرة على أمن الطاقة والممرات البحرية ولعب دور شرطي الخليج ، كما أن  النظام التركي الأردوغانى الذي يحلم بالإمبراطورية العثمانية الجديدة يسعى إلى إعادة المجد التليد بفرض أجندة توسعية في المنطقة العربية مستغلا حالة الإنشغال العربي ، سواء بالتدخل في سوريا للسيطرة على مناطق البترول بحجة تحطيم حلم الأكراد في تكوين دولة مستقلة ، أو التدخل في العراق بنفس الحجة وأنتهاك سيادتها ، وأخيرا التدخل في ليبيا عسكريا لدعم الجماعات الإرهابية الموالية له ، ويهدف من وراء ذلك عرقلة التعاون الإقتصادي البحري المصري اليوناني القبرصي ، وفرض طوق على مصر وتهديد حدودها الغربية ، وأيضا السيطرة على النفط الليبي .

وبالنظر إلى حالات الشد والجذب بين إيران والولايات المتحدة وأوربا ودول الخليج العربي ، سواء تعلق الأمر بالبرنامج النووي أو برامج التسلح الصاروخي الإيراني أو أمن الطاقة وترتيبات وتوازنات القوى في الخليج العربي ، ثم الصراع بين إيران والولايات المتحدة في العراق والتي أثرت إلى حد كبير على مسار الإحتجاجات الشعبية التي نددت بالفساد والتدخل الإيراني ، والذي تجلى في الدور الإيراني في مهاجمة السفارة الأمريكية في العراق ، ثم الرد الأمريكي العسكري بإستهداف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليمانى في العراق ، ثم الرد الإيراني الشكلي بقصف قاعدتين أمريكيتين في العراق دون خسائر الذي ربما كان متفق عليه بشكل ضمني لحفظ ماء وجه النظام الإيراني ، ولكن هنا يمكن القول أن الولايات المتحدة ربما هدفت إلى توصيل رسالة إلى إيران لحثها على الدخول في مفاوضات جديدة معها ، وتكشف عن رؤية الولايات المتحدة لممارسة النفوذ الدولي من خلال الضغوط الإقتصادية والتي ترى أنها تأتي بنتائج أفضل من القوة العسكرية ، وبصرف النظر عن الأمر فإن ماحدث على الأراضي العراقية يعد مخالفا للقانون الدولى ولسيادة دولة العراق ، ويشير إلى نمط جديد من الحروب بالوكالة الذي يدار بقوات نظامية على أراضي دولة ثالثة ، وهذا التطور ربما يؤثر بشكل كبير على أمن دول الخليج العربي ويؤثر بشكل أساسي على القدرة الدبلوماسية العربية في المنطقة ، والتى تتطلب دور عربي أكثر فاعلية ، ومن المسلم به ان أى ضعف في القوة العربية يصب في صالح دول مثل إسرائيل وغيرها التي تستغل الوضع لفرض يهودية الدولة وفرض السلام الإسرائيلى من وجهة نظرها .

أما تركيا فرغم زعمها المتواصل بأنها رسول سلام وومثل للإسلام السني فإنها في نفس الوقت ترتبط بعلاقات إستراتيجية بدولة إسرائيل وربما تمارس ضغوط على النظم العربية في قضايا متعددة لصالح دولة إسرائيل وفي مقدمتها الملف السوري والليبي ، واللبنانى ، والطاقة والمياة ، ودعم الجماعات الإسلامية المسلحة لزعزعة الإستقرار في بعض الدول العربية ، وتمثل سياسة النظام التركي تجاه دول الجوار العربي متغير هام ربما يمثل تهديدا جديدا ، وربما يحتاج إلى تحالف عربي لمواجهته ربما يكون سياسي إقتصادي أكثر منه عسكري ، وربما تكون جبهة دول المغرب العربي أبلغ أثر في هذا الشأن إضافة إلى الدور المصري والسعودي والإماراتي .

وتفرض تلك التحديات على دول النظام العربي ضرورة التعاون في كافة المجالات ، وبخاصة المجالات الأمنية والمعلوماتية ، وفرض عليها أيضا ضرورة تحديث وتقوية القوات العسكرية تسليحا وتدريباً ، مع توحيد المفاهيم والتهديدات المحتملة ، وتفعيل دور الجامعة العربية من أجل تقريب الهوة بين جميع الدول العربية على المستوى السياسي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى